تفسير الآيات

الطور: اسم جبل خاص، بل اسم لكلّ جبل، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية لا كلّ جبل بشهادة كونه مقرونًا بالألف واللام.

ومسطور: من السطر وهو الصف من الكتابة، يقال: سطَّر فلان كذا، أي كتب سطرًا سطرًا.

والظاهر انّ المراد من "مسطور" هنا هو المثبّت بالكتابة، قال سبحانه (كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُورًا) (أي مثبّتًا ومحفوظًا).

و رقّ: ما يكتب فيه شبه الكاغد.

ومنشور: من النشر، وهو البسط والتفريق، يقال: نشر الثوب والصحيفة وبسطهما، يقال: (وإذا الصُّحُف نُشرت) وقال سبحانه: (وإلَيْهِ النُّشور).

والمسجور: من السجر وهي تهييج النار، يقال: سجرت التنور، ومنه البحر المسجور، وقوله: (وإذَا البِحارُ سُجِّرت) وربما يفسر المسجور بالمملوء.

والمراد من الطور - كما تشهد به القرائن -: هو الجبل المعروف الذي كلّم اللّه فيه موسى (عليه السلام)، ولعلّه هو جبل طور سينين، قال سبحانه: (وطُورِ سِينِين)(1).

وقال سبحانه: (ونادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الأيْمَن)(2) وقال في خطابه لموسى (عليه السلام): (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً)(3).

وقال سبحانه: (نُودي مِنْ شاطئ الوادِ الأيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبارَكةِ مِنَ الشَّجَرة)(4).

حك وهذه الآيات تثبت انّ المقسم به جبل معين، ومع الوصف يحتمل أن يراد مطلق الجبل لما اودع فيه من أنواع نعمه، قال تعالى: (وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوقِها وبارَك فِيها)(5).

والمراد من كتاب مسطور: هو القرآن الكريم الذي كان يكتب في الورق المأخوذ من الجلد.

وأمّا وصفه بكونه منشورًا مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه وورقه، هو الإشارة إلى الوضوح، لأنّ الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه، فقال هو في

رق منشور وليس كالكتب المطوية، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف الأعمال، وقد وصفه سبحانه بكونه منشورًا، وقال: (ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلقاهُ مَنْشُورًا)(6) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون و ما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.

وهناك احتمال رابع، وهو انّ المراد هو التوراة، وكانت تكتب بالرق وتنشر للقراءة، ويؤيده اقترانه بالحلف بالطور.

وامّا البيت المعمور: فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة، فانّها أوّل بيت وضع للناس، ولم يزل معمورًا منذ أن وضع إلى يومنا هذا، قال تعالى: (إنَّ أؤلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركًا وهُدى لِلْعالَمين)(7).

ولعل وصفه بالعمارة لكونه معمورًا بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.

وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة، فوصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به.

والسقف المرفوع: والمراد منه هو السماء، قال سبحانه: (والسَّماءَ رَفَعَها ووضَعََ الْمِيزان)(8).

وقال: (اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها)(9).

قال سبحانه: (وجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون)(10)، ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض الذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثمّ ينفجر، قال سبحانه: (وإذَا البِحارُ سُجِّرَت)(11)، وقال تعالى: (وإذَا البِحارُ فُجِّرَت)(12).

ثمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأولى يجمعها شيء واحد وهو صلتها بالوحي وخصوصياته، حيث إنّ الطور هو محل نزول الوحي، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة الذين هم رسل اللّه.

وأمّا الاثنان الآخران، أعني: السقف المرفوع والبحر المسجور، فهما من الآيات الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.

لكن الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة، هي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور، وإنّما جمعها في الحلف بها لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع اللّه.

أمّا الطور فانتقل إليه موسى، والبيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والبحر المسجور يونس (عليه السلام)، وكل خاطب اللّه هناك، فقال موسى: (أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وتَهْدِي مَنْ تَشاء)(13) وقال أيضًا: (أرني أنظر إليك)، واما نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: "السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك"، وأمّا يونس فقال: (لا إلهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين)(14) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب وحلف اللّه تعالى بها.

وأمّا ذكر الكتاب، فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام، والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدلّ دليل على ذلك، لأنّ موسى (عليه السلام) كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطور.

وأمّا ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(15).

وأمّا المقسم عليه فهو قوله: (إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع)(16).

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به على تعدّده والمقسم عليه، هو انّ المقسم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة وعدم القدرة على دفعه، فإذًا ناسب أن يقسم بالكتاب أي القرآن والتوراة اللّذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميتها.

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة كالسقف المرفوع والبحر المسجور حتى يعلم أنّصاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقع وليس له دافع.

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزًا كبيرًا من سطح الأرض يبلغ نحو ثلاثة أرباعه، وتختلف صفات الماء عن الأرض، بسهولة تدفقه من جهة إلى أُخرى، حاملاً الدفء أو البرودة، وله قوة انعكاس جيدة لشعاع الشمس، ولذا فانّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيرًا أثناء النهار، ولا تنخفض بسرعة أثناء الليل فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط.

ويقول أحد العلماء: إنّ البحر يباري الزمان في دوامه، ويطاول الخلود في بقائه، تمر آلاف الأعوام بل وعشرات الألوف والملايين، وهو في يومه هو أمسه وغده، تنقلب الجبال أودية، والأودية جبالاً، ويتحول التراب شجرًا، والشجر ترابًا، والبحر بحر لا يتحول ولا يتغير، وقد دلت الأبحاث العلمية انّ أقصى أعماق البحار تعادل أقصى علو الجبال(17).

كما ناسب أن يحلف بالطور، لأنّ بعض المجرمين كانوا يتصورون انّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه، كما قال ابن نوح (عليه السلام): (سَآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء) قال: (لا عاصِمَ اليَوم مِنْ أمْرِ اللّه إلاّ مَنْ رَحِمَ)(18) فحلف بالطور إيذانًا إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب أو تحول بين اللّه ووقوع المعاد.

كما يمكن أن يكون الحلف بالطور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالة على قدرته التي لا تحول بينه و بين عذابه شيء.


1 - التين: 2

2 - مريم: 52

3 - طه: 12

4 - القصص: 30

5 - فصلت: 10

6 - الإسراء: 13

7 - آل عمران: 96

8 - الرحمن: 7

9 - الرعد: 2

10 - الأنبياء: 32

11 - التكوير: 6

12 - الانفطار: 3

13 - الأعراف: 155

14 - الأنبياء: 87

15 - تفسير الفخر الرازي: 28|240.

16 - الطور: 7- 8

17 - اللّه والعلم الحديث: 75.

18 - هود: 43.