تفسير الآيات

أمّا الأوّل أعني: (والذارِيات ذَروًا) فهي جمع ذارية، ومعناها الريح التي تُنشر شيئًا في الفضاء، يقول سبحانه: (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبات ُالأرضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذَرُوهُ الرِّياح)(1).

ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح.

وأمّا الحاملات، فهي، من الحمل، والوقر- على زنة الفكر - ذو الوزن الثقيل.

والمراد منه السحب، يقول سبحانه: (هُو الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفًا وطَمَعًا ويُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال)(2) وقال سبحانه: (حَتّى إذا أقَلَّتْ سَحابًا ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنا بِهِ الماء)(3).

وأمّا الجاريات، فهي جمع جارية، والمراد بها السفن، بشهادة قوله سبحانه: (حَتّى إذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة)(4) وقال: (والفُلْكِ الّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس)(5) وقال سبحانه: (إنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة).(6)

وأمّا المقسِّمات، فالمراد الملائكة التي تقسم الأرزاق بواسطتها التي ينتهي إليه التقسيم.

يقول العلاّمة الطباطبائي: وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد، فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر وتقسم بتقسمهم، ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأولى تقسم ثانيًا بتقسمهم وهكذا، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.

والآيات الأربع تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت انموذجًا ممّا يدبّر به الأمر في البر وهو الذاريات ذروًا، وانموذجًا ممّا يدبّر به الأمر في البحر وهو الجاريات يسرًا، وانموذجًا ممّا يدبّر به الأمر في الجو وهو الحاملات وقرًا، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير، وهم المقسِّمات أمرًا.

فالآيات في معنى أن يقال: أُقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في العالم ان كذا كذا، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي (عليه السلام) تفسير الآيات الأربع(7).

وبذلك يعلم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير الآية عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة - وهو يخطب على المنبر - فقال:

قال: ما الذاريات ذروًا؟ قال (عليه السلام): الرياح.

قال: فالحاملات وقرًا؟ قال (عليه السلام): السحاب.

قال: فالجاريات يسرًا؟ قال: السفن.

قال: فالمقسِّمات أمرًا؟ قال: الملائكة.

ثمّ إنّه سبحانه حلف بالذاريات بواو القسم، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء فيحمل المعطوف معنى القسم أيضًا.

هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه: هو قوله: (إنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وإنَّ الدِّين لواقع) أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنة والنار لصادق، أي صدق لابدّ من كونه فهو اسم الفاعل، موضع المصدر، وانّ الدين أي الجزاء لواقع والحساب لكائن يوم القيامة.

وعلى ذلك (إنَّما تُوعَدونَ لَصادق) جواب القسم، وقوله: (انّ الدين لواقع) معطوف عليه بمنزلة التفسير، والمعنى أقسم بكذا وكذا، انّ الذي توعدونه من يوم البعث وانّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر لصادق وانّ الجزاء لواقع(8).

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه هو انّه سبحانه أقسم بعامة الأسباب التي يتم بها أمر التدبير في العالم، لغاية أنّ هذا التدبير ليس سدى وبلا غاية، والغاية هي يوم الدين والجزاء وعود الإنسان إلى المعاد، إذ لولا الغاية لأصبح تدبير الأمر في البر والبحر والجو وتدبير الملائكة شيئًا عبثًا بلا غاية، فهو سبحانه يحاول أن يبين أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هو أكمل.

وفي ختام البحث نود أن ننقل شيئًا عن عظمة الرياح والسحاب والتي كشف عنها العلم الحديث.

فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مائة كيلومتر في الساعة فتسمى زوبعة، وإذا زادت على مائة سمّيت إعصارًا، وقد تصل سرعة الأعصار إلى 240 كيلومترًا في الساعة، والرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء وتوزيعه، ومن تكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبع تتكون السحب.

ويختلف ارتفاع السحب على حسب نوعها، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيدًا إلى أكثر من 12 كيلومترًا.

كسحاب السيرس الرقيق.

وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومترًا في الساعة، لا يمكن نزول قطرات المطر المتكون، وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها، ورفعها معه إلى أعلى، حيث ينمو حجمها، ويزداد قطرها.

ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر، تتناثر إلى نقط صغيرة لا تلبث أن تكبر بدورها، ثمّ تتجزأ بالطريقة السابقة وهكذا... وكلما تناثرت هذه النقط، تشحن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء السالبة التي تحمل الرياح... وبعد مدة تصير السحب مشحونة شحنًا وافرًا بالكهرباء.

فعندما تقترب الشحنتان بعضهما من بعض بواسطة الرياح كذلك يتم التفريغ الكهربائي وذلك بمرور شرارة بينهما، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة وبعده يسمع الرعد، و هو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء، وما هي إلاّ برهة حتى تخيّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون، ثمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض، وفجأة يشتد المطر ويستمر حتى تأخذ الأرض ما قدر اللّه لها من الماء(9).


1 - الكهف: 45

2 - الرعد: 12

3 - الأعراف: 57

4 - يونس: 22

5 - البقرة: 164

6 - الحاقة: 11

7 - الميزان: 18|365.

8 - الميزان: 18|366.

9 - اللّه والعلم الحديث: 135 - 136.