إلماع إلى مادة القرآن

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره، وادعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر بل من صنع قدرة إلهية فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ.

ثمّ إنّه أخذ يورد في أوائل السور قسمًا من الحروف الهجائية للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلف من هذه الحروف، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحًا ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله، لأنّ المواد التي تركب منها القرآن كلّها تحت أيديكم واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم، فإن عجزتم، فاعلموا أنّه كتاب منزل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده بشيرًا ونذيرًا.

وهذا الوجه هو المروي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو خيرة جمع من المحقّقين، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المقام:

أ- روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكري (عليه السلام)، انّه قال: "كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا: هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللّه: (الم * ذلِكَ الكتاب) أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها (الم) وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: (لَئِن اجْتَمَعتِ الإنْس والجِنّ عَلى أن ْيَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه ولَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيرًا)(1)"(2).

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني (254- 322هـ) من كبار المفسرين، حيث قال: إنّ الذي عندنا أنّه لما كانت حروف المعجم أصل كلام العرب وتحدَّاهم بالقرآن وبسورة من مثله، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المقطعة تعرفونها وتقتدرون على أمثالها، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أن ّالمنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها، وانّه حجّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وممّا يدل على تأويله أنّ كل ّسورة افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها، بعدها إشارة إلى القرآن، يعني أنّه مؤلف من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها، ثم ّسأل نفسه، وقال: إن قيل لو كان المراد هذا لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة؟ فقال: عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الذي يخاطبونه(3).

واختاره الزمخشري (467-538هـ) في تفسيره، وقال: واعلم أنّك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم: 14 سواه، وهي: الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم.

ثمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أنّ فيها من المهموسة نصفها: الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.

ومن المهجورة نصفها: الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون.

ومن الشديدة نصفها: الألف والكاف والطاء والقاف.

ومن الرخوة نصفها: اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون.

ومن المطبقة نصفها: الصاد والطاء.

ومن المنفتحة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون.

ومن المستعلية نصفها: القاف والصاد والطاء.

ومن المنخفضة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون.

ومن حروف القلقلة نصفها: القاف والطاء.

ثمّ إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كلّ شيء حكمته وقد علمت أنّ معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف التنزيل.

فكأنّ اللّه عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إيّاهم(4).

ومن المتأخرين من بيّن هذا الوجه ببيان رائع ألا وهو المحقّق السيد هبة الدين الشهرستاني (1301- 1386هـ) قال ما هذا نصّه: إنّ القرآن مجموعة جمل ليست سوى صبابة أحرف عربية من جنس كلمات العرب ومن يسير أعمال البشر وقد فاقت مع ذلك عبقرية، وكلما كان العمل البشري أيسر صدورًا وأكثر وجودًا، قلّ النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه، فإذا الجمل القرآنية ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر، فهي عبارة عن "الم"و "حمعسق" فلماذا صار تأليف جملة أو جمل منه مستحيل الصدور؟ هذا ونجد القرآن يكرر تحدي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل الممتنع كالطاهي يفاخر المتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع كالسمن واللوز ودقيق الرز، بينما المتطاهي لا يتمكن من ذلك مع استحضاره الأدوات، وكذلك الكيمياوي الماهر يستحضر المطلوب المستجمع لصفات الكمال، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء، وكذلك القرآن يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المستحضر القرآني موفورة لديكم من ح وم ول و رو ط و ه و أنتم مع ذلك عاجزون(5).

ويؤيد هذا الرأي أنّ أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع، هي: مريم والعنكبوت والروم والقلم، ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن، وإليك نماذج من الآيات: (الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين)(6).

(الم... نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقّ مُصدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وأنْزَلَ التَّوراةَ والإنْجِيل)(7).

(المص * كِتابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)(8).

(الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكيم)(9).

إلى غير ذلك من السور ما عدا الأربع التي أشرنا إليها.

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ونسبه إلى المبرد، وإلى جمع عظيم من المحقّقين وقال: إنّاللّه إنّما ذكرها احتجاجًا على الكفار، وذلك أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تحدّاهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، فعجزوا عنه، أنزلت هذه الحروف تنبيهًا على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ّذلك على أنّه من عند اللّه لا من عند البشر(10).

هذا هو الرأي المختار وقد عرفت برهانه.

وثمة رأي آخر أقل صحة من الأوّل، وحاصله: انّ كلّ واحد منها دال على اسم من أسماء اللّه تعالى وصفة من صفاته.

قال ابن عباس في (الم): الألف إشارة إلى أنّه تعالى أحد، أوّل، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنّه لطيف، والميم إشارة إلى انّه ملك، مجيد، منّان.

وقال في (كهيعص): إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافيًا، والهاء يدل على كونه هاديًا، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق.

وذكر ابن جرير عن ابن عباس انّه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنّه يجير، والعين على العزيز و العدل(11).

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي: وفي الحديث: "شعاركم حم لا ينصرون"، قال الأزهري: سئل أبو العباس، عن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): حم لا ينصرون.

فقال: معناه واللّه لا ينصرون.

وفي لسان العرب في حديث الجهاد: "إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا ينصرون" قال ابن الأثير: معناه اللهم لا ينصرون(12).

إذا عرفت هذه الأمور، فلنرجع إلى تفسير الآيات التي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب، وإليك البيان:

1- (يس * والْقُرآن الحَكيم * إنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين) فالمقسم به هو القرآن، والمقسم عليه قوله: (إنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين)، والصلة بين القرآن وبين كونه من المرسلين واضحة، لأنّ القرآن أداة تبليغه ورسالته ومعجزته الخالدة.

وأمّا وصف القرآن بالحكيم، فلأنّه مستقرٌ فيه الحكمة، وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ(13).

2- (ص * والقُرآن ذي الذِّكر *بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وشقاق * كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوا ولاتَ حينَ مَناص).

وصف القرآن بكونه (ذي الذكر) كما وصفه في الآية السابقة بكونه (حكيمًا) ووصفه تارة ثالثة بـ(المجيد)، والمراد بالذكر هو ذكر ما جُبل عليه الإنسان من التوحيد والمعاد.

قال الطبرسي: فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى، وذكر الأنبياء، وأخبار الأمم، وذكر البعث والنشور، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المكلّف من الأحكام ويؤيده قوله: (ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء)(14).

قال الطباطبائى في تفسيره: المراد بالذكر ذكر اللّه تعالى وتوحيده وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد والنبوة وغيرهما.

ويؤيد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة، قال سبحانه: (ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه)(15) وقال: (استَحْوذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكرَ اللّه)(16) إلى غير ذلك.

وأمّا المقسم عليه: فمحذوف معلوم من القرينة، هو أنّك لمن المنذرين، ويدل على ذلك التنديد بالذين كفروا وانّهم في عزّة وشقاق، أي في تكبّر عن قبول الحق وحمية جاهلية، وشقاق أي عداوة وعصيان ومخالفة، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ويصرّون على مخالفته، ثمّ خوّفهم اللّه سبحانه، فقال: كم أهلكنا من قبلهم من قرن بتكذيبهم الرسل فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ولات حين مناص.

والصلة بين المقسم به (القُرآن ذي الذِّكر) والمقسم عليه المقدّر "إنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين" واضحة، لأنّ القرآن من أسباب انذاره وأدوات تحذيره.

3-(ق والقُرآنِ المَجِيد * بَلْ عَجبوا انْ جاءَهم مُنْذِر مِنْهُم ْفَقالَ الكافِرونَ هذا شَيءٌ عَجيب)(17).

المقسم به هوالقرآن ووصفه بالمجيد، قال الراغب: المجد السعة في المقام والجلال، وقد وصف به القرآن الكريم، فلأجل كثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، فالمجيد مبالغة في المجد.

وقال الطبرسي: المجيد أي الكريم على اللّه، العظيم في نفسه، الكثير الخير والنفع(18).

والمقسم عليه: محذوف تدل عليه الجمل التالية، والتقدير: والقرآن المجيد انّك لمن المنذرين، أو أنّالبعث حق والإنذار حق.

وقد ركزت السورة على الدعوة إلى المعاد و وبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ونقد زعمهم.

والصلة بين المقسم به وجواب القسم واضحة، سواء أقلنا بأنّ المقسم عليه إنّك مِنَ المنذرين أو انّالبعث والنشر حقّ، أمّا على الأوّل فلأنّ القرآن أحد أدوات الإنذار، وأمّا على الثاني فلأنَّ القرآن يتضمن شيئًا كثيرًا عن الدعوة إلى المعاد.

ثمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان، قال سبحانه: (إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرآنهُ * فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبع قُرآنه)(19) قال ابن عباس: إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.

وقد خص بالكتاب المنزل على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فصار له كالعلم، كما أنّ التوراة لما أُنزل على موسى (عليه السلام)، و الإنجيل لما أُنزل على عيسى (عليه السلام)، قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب اللّه لكونه جامعًا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار تعالى إليه بقوله: (وتَفصيلاً لكلِّ شيء)(20)

وعلى هذا فالقرآن من قرأ بمعنى جمع، ولكن يحتمل أن يكون بمعنى القراءة، كما في قوله سبحانه: (وقُرآنَ الفَجْر)(21) أي قراءته.


1 - الأسراء: 88

2 - تفسير البرهان: 1|54، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة برقم 9.

3 - تاريخ القرآن للزنجاني: 106.

4 - الكشاف: 1|17، ط دار المعرفة.

5 - المعجزة الخالدة: 115- 116.

6 - البقرة: 1-2

7 - آل عمران: 1-3

8 - الأعراف: 1-2

9 - يونس: 1

10 - تفسير الفخر الرازي: 2|6.

11 - تفسير الفخر الرازي: 2|6.

12 - تاريخ القرآن: 105

13 - تفسير الميزان: 17|62.

14 - مجمع البيان: 8|465.

15 - الحديد: 16

16 - المجادلة: 19

17 - ق: 1-2

18 - مجمع البيان: 9|141.

19 - القيامة: 17- 18

20 - الأنعام: 154

21 - الإسراء: 78