معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال: الشهود والشهادة، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة، وقد يقال للحضور مفردًا عالم"الغيب والشهادة" وقد نقل القرآن شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه يوم القيامة، فقال: (يا رَبّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُورًا)(1).

هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ولا يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات، قال تعالى: (فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وجِئْنا بِكَ على هؤلاءِ شَهيدًا)(2).

وقال تعالى: (ويَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ولا هُمْ يُسْتَعْتَبُون)(3)

وقال عزّ اسمه: (ووُضِعَ الْكِتابُ وجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَداء)(4).

والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع - على إطلاقها - هو الشهادة على أعمال الأمم، وعلى تبليغ الرسل كما يومئ إليه، قوله تعالى: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين)(5).

وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا.

قال سبحانه: (وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد)(6).

وعلى ضوء ذلك يثار هذا السؤال في الذهن، وهو: إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرًا مع جميع الأمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئًا لا يذكر، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة؟

وهناك إشكال آخر أكثر غموضًا وهو: انّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة، بل الشهادة على باطن الأعمال من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة، وانّ إيمانه هل كان إيمانًا نابعًا من صميم ذاته، أو نفاقًا لأجل حطام الدنيا، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه؟

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من اللّه سبحانه، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، وانقياد وتمرّد، وإيمان وكفر، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان، وعند ذلك يقوم النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ويقول: (يا رَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُورًا).

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الأمّة، لا الأمة بأسرها، وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه: (وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا)(7) هم الكاملين من الأمّة لا المتوسطين وما دونهم.

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي، في قوله تعالى: (وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسطًا) فليس بشيء بديع، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأمّة وينسب الحكم إلى جميعهم، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل: (وجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الأصابع.

وثمة حديث منقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدًا) يؤيد هذا المعنى"الشهادة للأمثل": "فإن ظننت أنّ اللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى انّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا: لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الأمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس) وهم الأمّة الوسطى، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس"(8).


1 - الفرقان: 30

2 - النساء: 41

3 - النحل: 84

4 - الزمر: 69

5 - الأعراف: 6

6 - المائدة: 117

7 - البقرة: 143

8 - الميزان: 1|332.