المقسم به

إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب، والربّ أصله من ربب، يقول صاحب القاموس: ربّ كلّ شيء مالكه ومستحقه وصاحبه، يقال: رب ّالأمر أصلحه.

يقول ابن فارس: الرب، المالك، الخالق، الصاحب، و الرب المصلح للشيء، يقال: ربّ فلان ضيعته، إذا قام على إصلاحها.

والربّ المصلح للشيء، واللّه جلّ ثناؤه، الرب لأنّه مصلح أحوال خلقه، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.

هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد، وإليك هذه الموارد والمصاديق:

1- التربية: مثل رب الولد، رباه.

2- الإصلاح والرعاية: مثل رب الضيعة.

3- الحكومة والسياسة: مثل فلان قد ربّ قومه، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

4- المالك: كما جاء في الخبر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرب غنم أم رب إبل.

5- الصاحب: مثل قوله: رب الدار، أو كما يقول القرآن الكريم: (فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذا الْبَيْت)(1).

لا ريب انّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار، فلأنّ أمرها مفوض إليه، ولو أطلق على المصلح و السائس، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرف، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر: (إنَّهُ رَبِّي أحسَنَ مَثْواي)(2)، فلأجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشؤونه.

ولو وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم أربابًا، وقال: (اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُم ْأرْبابًا مِنْ دُونِ اللّهِ)(3)، فلأجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا.

إنّه سبحان وصف نفسه، بقوله: (ربُّ السَّماواتِ والأرْض)(4) وقال أيضًا: (رَبّ الشعرى)(5) كلّ ذلك لانّه تعالى مدبرها ومديرها ومصلح شؤونها والقائم عليها.

وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد.

أعني: من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق و التدبير والتربية، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.

نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربيًا ومدبرًا.

وثمة نكتة جديرة بالاهتمام، وهي: أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى التوحيد في الربوبية والتوحيد في الإلوهية، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقية، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقًا واحدًا؛ وفسروا الثاني بالتوحيد في العبادة، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد؛ ولكنّهم اخطئوا في كلا الاصطلاحين.

أمّا الأوّل: فلأنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية، فانّ الخالقية شيء والتدبير والإصلاح شيء آخر، واللّه سبحانه وإن كان خالقًا ومدبرًا لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.

فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية، وكان منطق الجميع، ما حكاه سبحانه بقوله: (ولَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّماواتِ والأرضَ ليقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ العَلِيم)(6).

وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية، يقول سبحانه: (واتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)(7) فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شؤون المدبر، قال سبحانه: (واتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون)(8).

فكانوا يرون أنّ النصر بيد الإلهة، خلافًا للموحد في أمر التدبير، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد اللّه سبحانه: قال تعالى: (فَلِلّهِ العِزَّةُ جَميعًا)(9) وقال تعالى: (ومَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيز الْحَكيم)(10) إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.

وأمّا الثاني: فلأنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة، فهو مبني على أنّ الإله بمعنى المعبود، والعبادة من لوازم الإله.

ولكنّه بعيد عن الصواب، لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الإله، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.

والذي يدل على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر، كما في قوله سبحانه: (وهُو اللّهُ فِي السَّماوات ِوفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْركُمْ ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُون)(11).

فإنّ وزان هذه الآية وزان، قوله سبحانه: (وهُو الَّذِي فِي السَّماءِ إلهٌ وِفِي الأرْضِ إلهٌ وهُو الْحَكيمُ الْعَليم)(12).

(ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيرًا لَكُمْ إنَّما اللّهُ إلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكونَ لَهُ ولَد)(13).

(هُو اللّهُ الَّذِي لا إلهَ إلاّ هُو الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُو اللّهُ الْخالِقُ البارِىَُ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ والأرضِ وهُو الْعَزيزُ الْحَكيم)(14).

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية (أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا).

ويقرب من الآية الأولى، قوله سبحانه: (قُلِ ادْعُوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى)(15).

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء، والأمر بدعوة أيٍّ منها، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ: "الإله" وغيره، ومثله قوله سبحانه: (هُو اللّهُ الْخالِقُ البارِىَُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى)(16).

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظًا على وجه الكلية لا العلمية الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.


1 - قريش: 3

2 - يوسف: 23

3 - التوبة: 31

4 - الرعد: 16

5 - النجم: 49

6 - الزخرف: 9

7 - مريم: 81

8 - يس: 74

9 - فاطر: 10

10 - آل عمران: 126

11 - الأنعام: 3

12 - الزخرف: 84

13 - النساء: 171

14 - الحشر: 23- 24.

15 - الإسراء: 110

16 - الحشر: 24