تفسير الآيات

تشير الآية الأولى إلى مقام من مقامات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانّ له -حسب ما دلّ عليه الكتاب و السنة في إدارة رحى المجتمع- مقامات ثلاثة:

أ- السياسية وتدبير الأمور: يقول سبحانه: (الَّذِينَ إنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أقامُوا الصَّلاة وآتَوُا الزَّكاةَ وأمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ وللّهِ عاقِبَةُ الأمور)(1).

ويقول في حقّ النبي خاصة: (النَّبِيُّ أولَى بِالْمُؤمِنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ)(2) وليس الأولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلاً عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.

بـ القضاء وفضُّ الخصومات: يقول سبحانه في حقّ داود: (يا داوُدُ إنّا جَعلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبيل ِاللّهِ إنّ الّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسُوا يَومَ الْحِساب)(3) وفي حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللّه َيُحِبُّ الْمُقْسِطينَ)(4).

ج: الإفتاء وبيان الأحكام: يقول سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة)(5)وقد كان الرسول -بنص هذه الآيات- جامعًا لهذه المقامات الثلاثة فكان سائسًا وحاكمًا، وقاضيًا وفاضًّا للخصومات، ومفتيًا ومبيّنًا للأحكام.

ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقق إلاّ بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ فصله، وقد كان بعض المنتمين إلى الإسلام لم يعيروا أهمية لقضائه، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وانّ كلّ رسول واجب الطاعة.

يقول سبحانه: (وما أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلاّ لِيُطاع بِإذْنِ اللّه)(6).

ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع والتسليم القلبي لما يقضي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن شهد الشهادتين وأذعن بهما، ومع ذلك يجد في نفسه حرجًا في قضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره فليس بمؤمن، يقول سبحانه: (فَلا ورَبّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْليمًا)(7).

فالآية تدل على أنّ الإيمان لا يكتمل بنفس الإذعان واليقين بالتوحيد والرسالة مالم ينضم إليه

التسليم القلبي، ولذلك ترى أنّ أمير المؤمنين عليًا (عليه السلام) يصف الإسلام بالنحو التالي، ويقول: "لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم"(8).

وتشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين (خيرًا منهم)، من دون أن يكون مغلوبًا، قال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ والْمَغارِب إنّا لَقادِرُونَ* عَلى أنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ).

فجواب القسم قوله (إنّا لَقادِرُون) وقوله (وما نَحْنُ بِمَسْبُوقين) عطف على جواب القسم، والمراد بالسبق الغلبة، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون السبق بمعناه والمراد: وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.

والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أنّ للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقًا ومغربًا لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.

ومن عجيب الأمر أنّ في الآية على قصرها وجوهًا من الالتفات.

ففي قوله: (فلا أُقْسِم) التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله: (إنّا خَلَقْناكُمْ) إلى التكلم وحده، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى اللّه نفسه.

وفي قوله: (بِرَبِّ الْمَشارِقِ والْمَغارِب) التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل، وهي ربوبيته للمشارق و المغارب، فانّ الشروق بعد الشروق، والغروب بعد الغروب، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامّة في تكوّن الإنسان جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.

وفي قوله: (إنّا لَقادِرُون) التفات(9) من الغيبة إلى التكلم مع الغير، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة، وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله، عن شيء منها، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير(10).

وأمّا الآية الثالثة: فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان، وقال: (أولا يَذْكُرُ الإنْسان ُأنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا)(11) والمراد أو لا يذكر أنّ النشأة الأولى دليل على إمكان النشأة الثانية، ثمّ أكده بقوله: "فوربك" يا محمد "لنحشرنّهم والشياطين" أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.

وأمّا الآية الرابعة: فسياق الآية يندد بالمقتسمين، ويقول: (كَما أنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمين)(12) ثمّ يصفهم بقوله: (الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِين)(13) والعضين جمع عضّة والتعضية التفريق، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة: سحر، وأُخرى: أساطير الأوّلين، وثالثة: مفترى، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.

ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضًا، وقالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

وعلى أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل اللّه فهؤلاء هم المقصودون، ثمّ حلف سبحانه وقال: (فَورَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أجْمَعينَ* عَمّا كانُوا يَعْمَلُون) من تبعيض القرآن و صد الناس عن الإيمان به.

وأمّا الآية الخامسة: فتذكر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.

وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الإنسان يبلى جسده بعد الموت وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز، فكيف يمكن إعادته؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيرًا إلى علمه الواسع، ويقول: (وقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلى ورَبّي لتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الغَيْبِ لا يَعزبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ ولا أصْغَرُ مِنْ ذلِكَ ولا أكْبَرُ إلاّ في كِتاب ٍمُبين)(14).

فقوله: (لا تَأْتِينَا السّاعَة) حكاية لقول المشركين.

وقوله: (قل بلى وربّي) أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.

وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فهو يعلم بذرات بدن كل إنسان ويميّزه عن غيره، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.

وأمّا الآية السادسة: يقول سبحانه: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْلَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ورَبّي لَتُبعَثُنّ ثُمْ لتُنَبَّؤنّ بِما عَمِلْتُمْ وذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير)(15).

تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث، فأمر النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقرونًا بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال: (ورَبّي لَتُبعَثُنّ ثُمْ لتُنَبَّؤنّّ).

وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى، وانّما طرحوه من شبهات حول البعث فهي - في الواقع - شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع.

وأمّا الآية السابعة: أعني قوله سبحانه: (ويَسْتَنْبِئُونَكَ أحَقٌّ هُو قُلْ إي ورَبّي إنّهُ لحقّ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِين)(16).

سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" عن نزول العذاب أو وقوع البعث، فأمره سبحانه بأن يجيب مؤكدًا، فقال: (قل إي وربّي انّه لحقّ) وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية، و"انّ" المشبهة و "اللام، " ثم أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد، وقال: (وما أنْتُمْ بِمُعجِزين)، وفي سورة المعارج قال مكانه: (وما نَحْنُ بِمَسْبُوقين).

وأمّا الآية الثامنة: (فَورَبِّ السَّماءِ والأرْضِ انّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْ تَنْطِقُون)(17).

فالضمير في قوله: "إنّه" يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة، قال سبحانه: (وفِي السَّماءِ رِزْقكُمْ وما تُوعَدُون) والمراد من الوعد هو الجنة.

ثمّ أشار (انّه لحقّ مثل ما أنّكم تنطِقُون) وكما أنّ العلم بهذا الأمر - أي النطق - أمر ملموس لا شبهة فيه، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

حكى الزمخشري عن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليّ فتلوت "والذاريات" فلمّا بلغت قوله: (وفِي السَّماءِ رزْقكُمْ) قال: "حسبك"، فقام إلى ناقته، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى، فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ فسلّم عليَّ و استقرأ السورة، فلمّ-ا بلغت الآية، صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقًّا، ثمّ قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: (فوربّ السّماء والأرض انّه لحقّ) فصاح، وقال: يا سبحان اللّه من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجوه إلى اليمين، قالها ثلاثًا، وخرجت معها نفسه(18).

إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته، وإليك الكلام في المقسم به، والمقسم عليه.


1 - الحج: 41

2 - الأحزاب: 6

3 - ص : 26

4 - المائدة: 42

5 - النساء: 176

6 - النساء: 64

7 - النساء: 65

8 - نهج البلاغة: قسم الحكم، الحكمة125.

9 - الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطابإلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه: (مالِكِ يَوم الدِّين * إيّاكَ نَعْبُد) وقوله سبحانه: (حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفلك و جرين بهم) وقوله سبحانه: (واللّهُ الذي أرسل الرياح فتثير سَحاباً فَسُقْناهُ) ففي الآية الأولى عدول من الغيبة إلى الخطاب، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.

10 - الميزان: 20|22.

11 - مريم: 67

12 - الحجر: 91

13 - الحجر: 90

14 - سبأ: 3

15 - التغابن: 7

16 - يونس: 53

17 - الذاريات: 23

18 - الكشاف: 3|169.