تفسير الآية الأولى

دلّت الآية الأولى على جهل المشركين، حيث كانوا يجعلون نصيبًا مما رزقوا للأصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم، وقال سبحانه: (ويَجْعَلُونَ لما لا يَعْلَمونَ نَصيبًا مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللّهِ لتسئلنَّ عَمّا كُنْتُمْ تفتَرون).

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام، وقال: (وجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الْحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللّهِ وما كانَ للّهِ فَهُو يَصِلُ إلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون)(1).

فالكفار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة - أعني: الأصنام والأوثان - بتخصيص شيء مما رزقوا لها، مع أنّه سبحانه هو الأولى بالتقرّب لا غير، لأنّه مبدأ الفيض و ما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله، فكيف يتقربون إليه؟!

والعجب أنّهم يجعلون نصيبًا للّه ونصيبًا لشركائه، فما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه، وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام، وقال: (وجَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الْحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللّهِ وما كانَ للّه فَهُو يَصِلُ إلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون)(2).

وحاصل الآية: أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظًا للّه وحظًا للأوثان، وقد أسماها سبحانه (شركائهم)، لأنّهم جعلوا الأوثان شركاءهم، حيث جعلوا لها نصيبًا من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى(فَما كان َلِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللّهِ وما كانَ للّه فَهُو يَصِلُ إلى شُركائِهِم) وجوهًا: (3)

أوّلها: انّهم كانوا يزرعون للّه زرعًا وللأصنام زرعًا، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه للّه ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والأصنام أحوج؛ وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه للّه لم يجعلوا منه شيئًا للّه، وقالوا: هو غني؛ وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه للّه وبعضه للأصنام فما كان للّه أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم، وهذا هو المرويّ عن الزجاج وغيره.

ثانيها: انّه كان إذا اختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل للّه تعالى ردّوه، وإذا اختلط ما جعل للّه بما جُعل للأصنام تركوه، وقالوا: اللّه أغنى، وإذا تخرق الماء من الذي للّه في الذي للأصنام لم يسدُّوه، وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي للّه سدّوه، وقالوا: اللّه أغنى.

عن ابن عباس وقتادة، وهو المروي عن أئمتنا "عليهم السلام".

وثالثها: انّه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدَّلوه مما جعل للّه، وإذا هلك ما جعل للّه لم يبدّلوه مما جعل للأصنام.

عن الحسن والسدي(4).

وفي الحقيقة انّ هذا النوع من العمل، أي توزيع القربان بين اللّه والآلهة، كان تزيينًا من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الأصنام حيث زينوا لهم هذا العمل وغيره من الأعمال القبيحة، قال تعالى: (وكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أولادِهِمْ شُركاؤهم لِيُرْدُوهُمْ (أي ليهلكوهم بالإغواء) ولِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ولَو شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وما يَفْتَرُونَ)(5).


1 - الأنعام: 136

2 - الأنعام: 136

3 - لاحظ مجمع البيان: 2|370.

4 - مجمع البيان: 2|370.

5- الأنعام: 137