الحديث الثاني

جاء ابنَ عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال له: لا، ولكن احلف بربِّ الكعبة، فانّ عمر كان يحلف بأبيه، فقال رسول اللّه له: "لا تحلف بأبيك، فانّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك"(1).

إنّ الحديث يتألف من أمرين:

أ: قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "من حلف بغير اللّه فقد أشرك".

ب: اجتهاد عبد اللّه بن عمر، حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق حديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

أمّا الحديث فنحن نذعن بصحته، والقدر المتيقن من كلامه ما إذا كان المحلوف به شيئًا يعد الحلف به شركًا كالحلف بالأنداد والطواغيت والآباء الكافرين.

فهذا هو الذي قصده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يعم الحلف بالمقدسات كالقرآن وغيره.

وأمّا اجتهاد ابن عمر حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق الحديث، فهو اجتهاد منه وحجّة عليه دون غيره.

وأمّا انّ الرسول عدّ حلف عمر بأبيه من أقسام الشرك فلأجل أنّ أباه كان مشركًا، وقد قلنا إنّ الرواية ناظرة إلى هذا النوع من الحلف.

ومجمل القول: إنّ الكتاب العزيز هو الأسوة للمسلمين عبر القرون، فإذا ورد فيه الحلف من اللّه سبحانه بغير ذاته سبحانه من الجماد والنبات والإنسان فيستكشف منه أنّه أمر سائغ لا يمت إلى الشرك بصلة، وتصوّر جوازه للّه سبحانه دون غيره أمر غير معقول، فانّه لو كان حقيقة الحلف بغير اللّه شركًا فالخالق والمخلوق أمامه سواء.

نعم الحلف بغير اللّه لا يصحّ في القضاء وفضّ الخصومات، بل لابدّ من الحلف باللّه جلّ جلاله أو بإحدى صفاته التي هي رمز ذاته، وقد ثبت هذا بالدليل ولا علاقة له بالبحث.

وأمّا المذاهب الفقهية فغير مجمعين على أمر واحد.

أمّا الحنفية، فقالوا: بأن ّالحلف بالأب والحياة، كقول الرجل: وأبيك، أو: وحياتك وما شابه، مكروه.

وأمّا الشافعية، فقالوا: بأنّ الحلف بغير اللّه - لو لم يكن باعتقاد الشرك - فهو مكروه

وأمّا المالكية، فقالوا: إنّ في القسم بالعظماء والمقدسات - كالنبي و الكعبة - فيه قولان: الحرمة والكراهة، والمشهور بينهم: الحرمة.

وأمّا الحنابلة، فقالوا: بأنّ الحلف بغير اللّه وبصفاته سبحانه حرام، حتى لو كان حلفًا بالنبي أو بأحد أولياء اللّه تعالى.

هذه فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة(2) ولسنا الآن بصدد مناقشتهم.

وكان الحري بفقهاء المذاهب الأربعة ولا سيما في العصر الراهن فتح باب الاجتهاد والرجوع إلى المسألة والنظر إليها بمنظار جديد إذ كم ترك السلف للخلف.

على أنّ نسبة الحرمة إلى الحنابلة غير ثابتة أيضًا، لأنّ ابن قدامة يصرّح في كتاب "المغني" - الذي كتبه على غرار فقه الحنابلة -: أنّ أحمد بن حنبل أفتى بجواز الحلف بالنبي، وأنّه ينعقد لأنّه أحد ركني الشهادة.

وقال أحمد: لو حلف بالنبي انعقد يمينه، فإن حنث لزمته الكفارة(3).


1 - سنن النسائي: 7|8.

2 - انظر الفقه على المذاهب الاَربعة: 2|75، كتاب اليمين، مبحث الحلف بغير اللّه تعالى.

3 - المغني: 11|209.